دراسات إسلامية

 

المرأة بين أمر اللّه وأمر البشر

 

 

بقلم : الشيخ الدكتور محمد بن سعد الشويعر/ الرياض

  

 

  

 

 

       نحسّن في حياتنا اليومية ببعض المفارقات، ونلمس أمثلةً من التباين. وذلك بين نظرة بعض الناس للدين، ونظرتهم لمتطلبات نفوسهم، وتلبية رغباتهم، وتقليد الآخرين. ولعلّ الفارق بين النّظرتين، مبعثه أنّ بعضهم لا يهتمون إلا بما هو محسوس لديهم، ولا يذعنون إلاّ بما يلامس أوتار قلوبهم، وبما يؤثر في مصالحهم، أو يتغلغل في مشاعرهم ووجدانيتهم، دون الاهتمام بعرض ما يوجه إليهم: ثقافيًا وإعلاميًا، من أعدائهم، على محكّ تعاليم دينهم، وقاعدته الأساسية الراسخة، وهي العقيدة التي تدور عليها الأعمال، دون تميز فيما يوجّه للفرد المسلم، بين ذكر وأنثى؛ لأنّ التعاليم لهما سويًا، ولكلّ منهما خصوصيته.. والمرأة جزء من هذا الإحساس، تتأثر بالمغريات، وتنساق عاطفتها خلف الرّغبات .

       وحتى لا يكون الحديث مجملاً، فإنه لابُدَّ من وضع نقطة نعتبرها محور المقارنة، ومدار المناقشة. وذلك فيما يتعلّق بالمرأة، خاصة في هذا الوقت، الذي كثرت فيه السهام الموجهة، وتعالت الشبهات التي تُدْفع للبروز، إما شهوة وإما بحبّ التقليد، مصداقًا لحديث سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام: (لتتبعنّ سنن من كان قبلكم حذو القذّة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه). قيل: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟. قال: (فمن؟). أي لا أعني غيرهم (رواه البخاري ومسلم جامع الأصول 10-35).

       ففي القرآن الكريم آيات تحثّ المرأة على الاحتشام، وعدم إبداء الزينة للغرباء؛ لتتميز المرأة المسلمة بهذا المسلك الذي رسمه القرآن الكريم لها: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى﴾ (الأحزاب الآيتان 32-33)، وقال تعالى: ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ عَلى جُيُوبِهِنَّ﴾ وآخر الآية ﴿وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾ (النور الآية 31).

       فإذا كانت الأوامر الربانية في هذه الآيات وغيرها، وتعليمات رب العباد، العالم بأسرارهم، وما يصْلح أحوالهم، قد رسمتْ المنهَج الصحيح للمرأة في مظهرها ومخبرها، وإن كان الخطاب للنساء الأوليات؛ فإن جميع النساء مأمورات بالتتبع، لتبقى المسلمة بوقارها واتزانها، وعفتها وكرامتها، جوهرة مصونة، وكيانًا له احترامه، والمحافظة عليه، فلماذا نرى كثيرًا من نساء المسلمين في كلّ مكان، وخاصة الحاصلات على درجة كبيرة من التعليم، يُشِحْن عن هذا؟ وينصرفن إلى التبذل والتبرج، وإبداء الزينة لغير المحارم، بحجة أن مألوف الناس ورغبتهم، وأن نظرتهم وعاداتهم، قد دفعت المرأةَ باسم العلم والتطور إلى هذا الطريق، وبعضهن لا تحب أنْ تكون ناقصة عن غيرها في العمل والقدوة، أو في المظهر والتقليد، وكأنها ترضى أن تتساهل في أمر الله، وتستجيب لرغبات النفس والهوى، ورضا مَنْ وراء ذلك من البشر، ولو كان من أقرب الناس إليها .

       لكنّ النظرة الحقيقية، التي يجب أن تعيها المرأة المسلمة، وتقتنع بها عن علم ودراية، هي إدراك مكانتها في الحياة، كامرأة تستقي تعاليم دينها، وتسترشد بمسيرتها في التطبيق، بتعاليم ربانية، ساقها الله لإصلاح البشرية منذ خمسة عشر قرنًا، ولا تزال تتجدد، مع كل لون من ألوان الحياة، ولتتيقن ذلك عن علم وبصيرة واهتمام وعمل، فإن العاقلات من نساء الغرب قد سئمن ما وُجِّهن إليه؛ بل لو ألقينا نظرةً في حياة الناس، وواقعهم حول تعليمات البشر، وأوامر القادة، ثم الاهتمام بتطبيق أنظمة الدول المختلفة، لوجدنا النساء بالذات هنّ أول من يسعى للتطبيق والائتمار، وأسرع من ينجذب وينقاد كواعية، ودليل على هذا: لو افترضنا أن واحدً من زعماء البشر في أي مكان، أصدر بيانًا يُشبه ما أصدر الحاكم بأمر الله الفاطمي، حول المرأة في وقته، ويحدّد فيه نوع لباس المرأة، والوقت الذي تخرج فيه من بيتها، ومنعها من ركوب الحافلات العامة، ومزاحمة الرجال، وأكد في بيانه هذا أنه سيضع رقباء يعطونه الأخبار، وأعوانًا يطبقون الجزاءات.. فماذا يا ترى نرى؟؟!

       حتمًا لابدّ من انسياق الناس، واستجابة النساء؛ خوفًا من عقاب زائل، وترقبًا لنتيجة عاجلة، وهذه الاستجابة تتمثل في سرعة التنفيذ، والتقيد بما ألقى من تعليمات، افتراضية.

       وفي هذه الحالة أتوقع أن شوارع المدن، في هذه الأثناء، ستخفّ بنسبة ٪50، وأنّ أزمة المواصلات من أجرة وحافلات كبيرة سينعدم فيها الازدحام، وستكون سهلة وميسرة، لكل راغب في الوصول إلى هدفه بأقصى سرعة ممكنة، وسيقلّ رواد الأسواق من النساء، كما أنهن سيتقيدن باللباس المطلوب، في ذلك المجتمع، بل سيعملن طاقتهن للاستجابة من أول يوم، وباستمرار؛ حتى لا يقعن تحت طائلة العقاب البشري، وبجهد متواصل على تحقيق ذلك الهدف المفروض عليهن، والتباهي بسرعة الاستجابة.. ومبادرة التقيد بالأوامر الصادرة؛ تزلّفًا وقربة، أو خوفًا من جزاء يُطَبَّق، ولا يعتبرون ذلك تخلفًا أو رجعية .

       فإذا كانت هذه نظرة البشر إلى من يخافون بطشَه ويلمسون منهم العقابَ والجزاءَ العاجل، فهل فكرت المرأة في المجتمع الإسلامي، بما صدر فيه من تعليمات ربانية، وما جاء من تأكيدات إلهية، وردتْ على لسان رسول الله ، في حث المرأة على أن تكون: أمّا عارفة، وزوجة صالحة، وعضوًا فعّالاً في المجتمع، وهي بلا شك آكد من كل محسوس في حياتها.

       ثم هل دار في خَلَدها، وتعيه جيدًا: أن كل فرد منا، ذكرًا أو انثى، في هذه الحياة، تُحصى عليه حركاته، وسكناته كما قال تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ (ق آية 18)، وقوله: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أحَدًا﴾ (الكهف آية 49)؛ لذا يجب عدم وصف تعاليم شرع الله بكلمات نابية، أو نعتها بالجمود، وعدم التلاؤم مع المجتمع .

       وحتى تراقب المرأة نفسها بنفسها، بمراقبة ذاتية، هل وضعت في حسبانها أن أمر الله أقوى من أوامر البشر، وأن عقابه سبحانه أشدّ وأنكى من تهديدات القادة، وولاة الأمر في الحياة الدنيا، وأن الداعي إلى الله وشرعه أمكن من الداعي إلى طريق يتصادم مع أمر الله ويعاديه؛ فلا يجب أن يكون في الأوامر البشرية ما تقدمه النفوس على أمر الله، وأمر رسوله الكريم: ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أن تَخْشَوْهُ إِن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (التوبة آية 13) .

       ثم هل عُمِلَتْ مقارنة دقيقة حول ما يقدّمه الفرد من أعذار أو كذب، وخداع أو نفاق، لتحقيق مصلحة دنيوية، أو لصرف عقاب مفروض، مع التأكيد أن ما ينطلي على البشر من هذا، لا يجوز على الله سبحانه وجلّ عن المثيل والشبيه، فله المثل الأعلى، ولا مقارنة بين أمر الله وشرعه، بأوامر البشر ورغباتهم القاصرة .

       ذلك أن الأعمال كلها محصاة، والتصرفات مقيدة، فكل يلقى ما قُدِّم في صحيفته المقيدة، مهما صغر أو كبر؛ ما يجب معه وضع ذلك أمام الأعين حتى لا تنجذب المرأة لأوامر البشر، المزينة بالمغريات، وزخرف القول، وتتجافى عن أوامر الله، التي ستُناقَش عنها، في يومِ لا ينفع فيه مال ولا بنون، يقول سبحانه: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُوْنَ﴾ (النحل آية 118)، فيجب على المرأة أن تعرف ماذا يجب عليها؛ إذ إن شرع الله هو المقدّم .

       وهنا أقول للأختي المسلمة في كلّ مكان: حذارِ من انسياق بنات حواء خلف التيار المبتعد عن منهج الله الذي ارتضاه لها، وفق ما أبانه سبحانه في كتابه الكريم، الذي كان من وصية رسول الله لأمته، حتى تقوم الساعة، التمسكَ به، وأن يظلوا بخير ما داموا محافظين عليه تطبيقًا ومنهجًا وسلوكاً.. لأنه التشريع الأول للمسلم.. ثم بما جاء على لسان رسول الله في التشريع الثاني، الذي رسم للأمة الدرب الواضح والشخصية المميزة للمرأة المسلمة، في بيتها وأسرتها، وفي مجتمعها وعملها، وبما فهمه الرعيل الأول من هذه الأمة، الصحابة والقرون الثلاثة المفضلة، وبحثّه عليه الصلاة والسلام النساء في حديثه معهن بقوله: (تصدقن فإني اطلعتُ في النار فرأيت أكثر من فيها النساء، فقالت امرأة: ولم يا رسول؟ قال: (لأنكن ناقصات عقل ودين) فقالت: وكيف؟ فقال (أمّا نقصان العقل فإنكنّ تكثرن الشكاية، وتكفرن العشير، وأما نقصان الدين: فلأنكن تمكث إحداكن شطر الدهر دون صلاة ولا طهارة، وشهادة إحداكن بنصف شهادة الرجل)، وهذا من خصائص المرأة، حيث خفف عنها في التشريع .

       هذه الأمور تستوجب من المرأة حُسن الاتباع والمحافظة؛ إذْ خفف عنها رسول الله أمورًا عديدة رأفة بحالها؛ فعليها أن تهتم بمراجعة النفس فيما يطرح أمامها من أمر، لتعرضه على المنهج السليم من أمر الله وأمر رسوله، ومحاسبة الأحاسيس؛ لأن سير المرأة في عادات وتقاليد بعيدة عن دينها الذي كرّمها الله به، ومجتمعها وبيئتها، بحجة التطور والحضارة، وبدعوى المدنية والارتقاء، أو المحاكاة بغير رويّة فيما يباعدها عن شرع الله، أمر خطير.

       كل هذا لا يعفيها من المساءلة أمام خالقها، عمَّا ضاع من تفريط، وما تركته من التزامات تتباين مع عقيدة ونهج الإسلام الذي رُسِمَ للمرأة، وما يجب أن تسير عليه، في نفسها وتصرفاتها، وفي تأدية ما أنيط بها من مسؤولية، والدعوة لإخضاع متطلبات الحياة، إلى منهج الإسلام الذي لاتمنع تعاليمُه السيَر في سبل الحياة وفق الإطار الذي ارتضاه الله لها وبيَّنه رسوله الكريم للأمة، وفي الأيام التي حددها للنساء يُسْألْنَ فيه عمّا يهمهنَّ في دينهن ودنياهُنَّ، باحتشام وستر دون الخضوع في القول، أو إظهار الزِّينة لغير من حُدِّد للمرأة في سورة النور، لأن الله سبحانه هو العالم بما يصلح أحوال المرأة .

       فماذا أعدَّتْ المرأة لهذا السؤال؟.. وماذا هيّأت من إجابة؟ إنَّ الإسلام لا يقف حائلاً دون الزِّينة التي تتوق إليها المرأة؛ لكنه يمنع التبرج، كما أنه لم يقيد المرأة بلباس معين؛ لكنه يدعو للاحتشام فيما هو مباح وساتر، ولا يمنع المرأة من المشاركة بطلب المعيشة، أو التملك والبيع والشراء؛ لكنه يمقت الاختلاط، والخلوة والابتذال والخضوع بالقول؛ حيث تقع الريبة، ويطمع الذي في قلبه مرض؛ لأن المرأة في التعاليم أمانة يجب أن يحافظ عليها، فلا تسافر بدون محرم مسافةً تزيد على القصر، ولا تتزوج دون وليّ، ولا يحل لوليِّها أن يعضلها، أو يستولي على مهرها أو مالها بدون رضاها، كما لايحل للولي أن يزوجها بدون موافقتها، كما جاء في الحديث . وإذن البكر سكوتها.

       كما أن الإسلام بتعاليم شرع الله وعلى لسان رسول الله لا يحول بين المرأة والأخذ بأسباب الجمال المباح؛ لكنَّه يقيد ذلك بألا يكون مصطنعًا أو فيه تغيير لخلق الله؛ حيث لعن رسول الله (الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله) أخرجه النسائي والبخاري أيضًا (جامع الأصول 4: 780) .

       ومع هذا فالإسلام بتعاليمه السمحة، التي رفعت مكانة المرأة، وتاقت المرأة الغربية، لكي تحظى بما يكفل لها حقوقًا كالمرأة المسلمة، بالبر والصلة، والترابط الأسري وغير ذلك، يمنعها من إظهار الزينة في لباس أو حلي، أو الطيب لغير محارمها الشرعيين، أو تُدْخِل في بيت زوجها من لا يرغبه، أو بغير إذنه، ويضع في هذا منهجًا قويًا، وقاعدة ترسم معالم الطريق الصحيح حماية للأسرة، وبعدًا عن المزالق يقول سبحانه ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(٣١) سورة النور.

       ولا يمكن معرفة هذه الحقيقة إلا بالعلم النافع، وأعني بالعلم النافع، الذي أمر الله به، وفي مقدمته: العلم بكتاب الله، وسنة رسوله ، وسؤال أهل العلم المعتبرين، عما خفي من الدلالة: لغة ومعنى، لأن بهذين المصدرين: سعادة الدنيا والآخرة. وذلك يعني المهمة الأساس، التي خلق الإنسان من أجلها.

       فمن هذه الآداب القرآنية، والصفة السلوكية، التي ارتضاها الله للمرأة، والخير في أمر الله وأمر رسوله، ما جاء من منع الاختلاط بين الجنسين، في المدرسة والعمل، في الجامعة أو المتجر، وغير ذلك من الطرق التي تدعو إلى الفتنة أو التبرج، والابتعاد عن دواعيهما، وسمّى الله مثل هذا العمل تبرج الجاهلية الأولى، وهي ما قبل الإسلام، وبعثه محمد ؛ فتعاليم الإسلام يجب أن تكون راسخة، طوعية التنفيذ، رسوخها في القلب، وتنفيذها بالجوارح، مثل الإيمان الذي هو تصديق بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقض بالعصيان، وهي للمرأة فيما يخصها آكد وألزم ؛ حيث تجعل ذلك نبراسًا تهتدي به وعقيدة تسترشد بها وزاجرًا يمنعها من التجاوز والانسياق .

       ومن المهم أن تحرص كل امرأة في المجتمع الإسلامي على أن تكون مؤمنة بخالقها، ملبية لأوامر دينها، متمثلة بمبادئه وتشريعاته سلوكاً ومنهجاً، منتهية عما حُذِّرتْ عنه، مسترشدة بالأمر التوجيهي كانها المعنية به، وتبتعد عن النهي كأنها المزجورة عنه، لتكون هذه الأوامر، وتلك الزواجر، أقوى نفوذًا، وأمكن رسوخًا في وجدانها من أوامر البشر وتعليماتهم، وأن يكون خوفها من الله وأليم عقابه، أثبت من خوفها من أي نظام دنيوي؛ لأن المرأة عُرِفتْ في علم الإدارة بالانضباط والحرص، ومن باب أولى فإن الشعائر يجب أن تحتل من وجدانها منزلة كبيرة، كما قال سبحانه ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾(٣٠) سورة الحج، ويقول ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ (32) سورة الحج.

       فالمرأة المسلمة متى وعت هذا وعقلته، فإنها بذلك تصلح في نفسها؛ لأنها ستحرص على التطبيق وتصلح من حولها؛ لأنها تهتم بالتنفيذ والدعوة إلى الاقتداء والعمل. ومن القدوة الصالحة ينبني المجتمع القوي الذي دعامته الامتثال لأمر الله، ونشدان الحقيقة في الطواعية والعمل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوْا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنُكُمْ﴾ (59) سورة النساء.

       والمجتمع الإسلامي لايشتد ساعده ولا تقوى ركائزه، إذا لم يطبق نصفه اللطيف، عن طواعية وقناعة، وعلم ودراية وبحماسة، ما يُلقى عليه من أوامر ربانية، ويرتدع عما يُنْهَى عنه، من زواجر، ثم يتعاون النصفان في بناء ذلك المجتمع مشاركة وقناعة وتفاعلاً، ليصلح بصلاحهم، وتخف المنغصات بحسن استجابتهم؛ لأن المرأة في المجتمع الإسلامي تمثل النصف القوي، في مسؤولية البناء والإعداد؛ فهي الأرض الخصبة للأولاد وتربيتهم ولِكلامِها الأول دورُ الرسوخ في عقولهم، ولذا جاءت المخاطبة الشرعية، في القرآن الكريم، مع الرجل على قدر المساواة، في الأمر والنهي، وفي الأجر والعقباب، وفي الوعد والوعيد، وفي مواقف كثيرة ومناسبات متعددة، وانفرد كل منهما بما هو من خصوصياته، قال تعالى ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾(٣٥) سورة الأحزاب .

       فما على المرأة إلا أن تعرف مكانتها العظيمة التي بوّأها الله إياها؛ لتحتفظ بدورها الكبير، ومركزها القيادي، متمثلة بأمر الله في نصوص شرعه، ومقتدية بنساء الرعيل الأول، اللواتي فهمن ما تعنيه النصوص، وانقدن في العمل والتطبيق مسارعات فكان لهن دور قيادي مميز في التوجيه والعلم. ولن يكون دور المرأة في حاضرها، بأقل من مكانتها في ماضيها، ما دامت مسترشدة بمصدري التشريع في الإسلام: كتاب الله وسنة رسوله الكريم، صلى الله عليه وسلم، ورسَّخ هذا الشاعر حافظ بقصيدته عن تعليم المرأة. فكانت صادرة عما صدر عنهما ومنتهية عما نهيا عنه، متأسية بنساء الصحابة، اللواتي يسألن أزواجهن، إذا عادوا في المساء إليهن من مجلس رسول الله لسماع أي تشريع جديد، وعما نزل من أوامر أو نواه، ليبادرن بالأمتثال وسرعة الاستجابة، نموذج ذلك لما نزلت آية الحجاب، ففي نفس الليلة، بادرن بشق مروطهن، واعتجرن بها؛ فكن في صلاة الفجر كأن على رؤوسهن الغربان، ولا يعرفهن أحد من الناس والستر. وبذا تقوى مكانة المرأة، وتكبر في عيون الآخرين؛ لأن من احترم دينه وامتثل ما جاء في تعاليمه براحة قلب واطمئنان نفس حبًا فيه؛ لأنه عن الله الخالق، فلا بد أن يحترمه الآخرون، ويجعل الله له قبولاً عندهم، ومن امتثل عن رضا وقناعة؛ لأنه ممن بيده ملكوت كل شيء، فإنه سيقدَّر ويهاب جانبه.. ومن كان مع الله كان الله معه. وإذا كان سفيان الثوري، رحمه الله ، عندما جاء الحديث عن أناس لهم دور في الاجتهاد وفهم دلالة النصوص كان يقول: هم رجال ونحن رجال، أخذوا بعلم عن الله، يجب أن نأخذ به، ولهم عقول لنا عقول.

       فإن المرأة في كل زمان ومكان يجب أن تكون باحثة عن الحقيقة وما يزكيها بالنص الشرعي، وتقتدي بمثل هذا القول، وتستنير به، لتقول عن القدوة الصالحة من النساء العارفات بواجبهن ودينهن: هن نساء ونحن نساء، أخذن بعلم يجب أن نأخذ به، وأن نستعمل عقولنا وإدراكنا، فيما أمرنا الله به، ونرفض كل ما يوجّه نحونا ولا مستند إليه؛ لأن الرسول قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردّ) يعني على صاحبه .

*  *  *

 

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان – شوال 1428هـ = سبتمبر – نوفمبر 2007م ، العـدد : 9–10 ، السنـة : 31.